فصلُ الخِطابِ في ثُبوتِ السَّنَدِ بين الوَصِيَّةِ والاحتِجَابِ

في التجربة الصوفية، لا يُفهم السند الروحي على أنه مجرد علاقة بين شيخ ومريد، بل يُنظر إليه كجريان مستمر لنور إلهي متصل، يمرّ عبر سلسلة من الأمناء على السر، هذا الامتداد النوراني، الذي تعيه الزوايا في جوهر تكوينها، يستمد أصوله من السند المحمدي، حيث بلّغ النبي ﷺ الرسالة، وأورث سرّها لمن قام مقامه من الأولياء والأقطاب، فصار النور يسري في القلوب كما يسري الدم في العروق.
والزاوية، في حقيقتها التكوينية، بنية روحية شفّافة، تنعقد فيها العلاقة بين الشيخ والمريد على أساس السند، والبيعة، والسر، والوصية. فإذا كان الشيخ، بوصفه قطب التدبير وجوهر التجلي، هو الواسطة النورانية التي تنتظم حولها حركة السير، فإن حضوره ليس رهينًا ببدنه، بل ممتد بمقامه وسره؛ فغيابه الجسدي أو احتجابه الظرفي لا يُعد فراغًا، بل تحولًا في أنماط الفيض من التجلي العياني إلى البث الباطني. وفي منطق الذوق، لا يُقاس حضور الشيخ بمقدار ظهوره، بل بمقدار نفوذه في قلوب السالكين، وحين يحتجب، لا تنقطع الصيرورة، بل تكون الوصية كآلية روحية لاستمرارية السلطة التربوية بوساطة من أُذن له بحمل العهد، بما يحفظ انتظام التلقي ضمن هندسة الطريق.
وفي ضوء مفهوم الاحتجاب الذي هو في التصور الصوفي انتقال من شهود الصورة إلى دوام المعنى، ومقام من مقامات التدبير الإلهي الذي يُخفي ليُبصر، ويحتجب ليُفيض، ، “يتعيّن التمييز بين التمثيل الوظيفي القائم على التبليغ، وبين التمثيل الروحي المؤسَّس على الإذن المحمول”، فليس كل من نقل عبارة شيخ، مأذونًا له في تدبير ما يتفرع عنها من مقتضيات السير. إن الوصي المأذون ليس امتدادًا تمثيليًا بل تجلٍّ وظيفي للعهد، يُفعَّل حين يحتجب المركز لضرورة، ويُناط به تأمين سريان السر في غياب المظهر، فيصير الموصى له—لا باعتباره بديلاً، بل بوصفه حارسًا على النسق وحاملًا لصوت الغياب—هو نقطة التوازن بين وفاء السالك وامتثال العهد.وقد قال الشيخ أبو مدين الغوث: “الشيخ إذا غاب شخصه، بقيت كلمته جارية في القلوب، وسره متوهّجًا في المريدين، فمن تخلّى عن الوصية في غيابه، فقد أنكر نوره في حضوره.” كما عبّر ابن عطاء الله السكندري عن هذا المعنى بقوله : “قد يكون الغياب أبلغ في التربية من الحضور، إذا كانت العناية قد سبقت، والوصية قد وُضعت، والعهد قد انعقد.”
وقد اتفق أهل العلم، فقهًا وتصوفًا، على أن الوصية الصريحة تُعدُّ أعلى درجات الإذن، وهي تفويض معتبر شرعًا، خاصة إذا كانت مكتوبة ومعروفة في حياة الشيخ وبعده. حيث قال الإمام ابن قدامة في المغني: “إذا أوصى الرجل في صحته أو مرضه إلى من يثق بدينه وعقله، فإن ما فعله الموصى له في حدود ما أُذن له، يلزم، ولا يُنقض”. وهذا ما تؤكده القاعدة الفقهية بأن “الإذن الخاص يُناط به الاختصاص، ولا يُنازع فيه من لم يؤذن له”.
في دراسة فقهية مقاصدية لاستمرارية الولاية الروحية داخل الزاوية القادرية البودشيشية، يتبيّن أن الوثيقة المكتوبة التي أعدّها الشيخ حمزة القادري—رحمه الله—تُعبّر عن مقصَدٍ أساسي في الشريعة، وفي الذوق الصوفي، يُعدّ السكون القلبي من أشرف ثمرات الطريق، إذ لا يصفو حال السالك ولا يثبت قدمه في السير إلا إذا استقر في قلبه اليقين ببقاء العهد وسريان السر، في يد مأذون متحقق، موصول السند، مجرى للفيض. ومن هذا المقام، تندرج وصية الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش، التي أسند فيها العهد أولًا إلى ابنه مولاي جمال الدين ثم إلى حفيده مولاي منير، لا كترتيب ظاهري، بل كتجسيد لاستمرارية النفس المحمدي في سلسلة التزكية والإرشاد. وقد جُدّد هذا العهد بعبارة سيدي جمال في الذكرى الثامنة لوفاته: “اللي عندي عند ولدي منير”، وهي كلمة ذات إشراق روحي، تطمئن القلوب وتُثبّت النفوس، لأنها تُؤكد أن السير لم ينقطع، وأن السر حيّ، وأن الوصية ما زالت جارية في مجراها. وفي هذا التفعيل العميق للوصية، يتحقق مقصد الطريق في حفظ السند، وصيانة وحدة القلب الجمعي، ودفع الغبش عن مرآة السالكين.
وقد بيّن الإمام أحمد زروق في قواعد التصوف أن “من غاب عنه الشيخ، فالوصية حجته، فإن خفيت، فالعرف بين الفقراء العدول، ولا يصحّ التسيير إلا بإذن ظاهر أو سند مؤسس”. والوصية في حالتنا ليست فقط عرفًا، بل مكتوبة، معلومة، متداولة، وهو ما يجعل الإنكار لها طعنًا ضمنيًا في الشرعية الروحية نفسها. كما جاء في الفروق للقرافي، “فالولاية إذا ثبتت بالوصية أو الإذن الصريح، فإنها تُغلق باب المنازعة، لأن الشرع لا يجمع بين إمامين على نفس الموضع”.
و يُعدّ التقسيم الذي اعتمدته الزاوية القادرية البودشيشية في مهام التبليغ بين الداخل والخارج نموذجًا إبداعيًا في التنظيم الصوفي، جمع بين مقتضيات الانتشار الحديث وثوابت السند الروحي. فقد نجحت الزاوية في إرساء وظيفة التبليغ كوسيلة لنقل توجيهات الشيخ، لا كموقع بديل أو مقام موازٍ، مما حافظ على صفاء العلاقة بين المركز والأطراف، دون أن يُخلّ بمقام المشيخة الذي يبقى قائمًا بالسر، لا بالتمثيل. هذا التمييز الدقيق، الذي ينسجم مع أصول التصوف، مكّن الطريقة من تأمين سريان الكلمة في اتساعها الجغرافي، دون أن تنزاح عن مبدئها الجوهري: المبلّغ ينقل، لكنه لا يتصرّف، والمشيخة لا تُفوّض، بل تُتحقّق.
غير أن هذا التوزيع، من حيث حقيقته الشرعية والروحية، لا يُعد تفويضًا بالتسيير، وإنما تكليفًا بالتبليغ والتنظيم الإداري والتنفيذي لأوامر وتعليمات الشيخ، أي أن أبناء الشيخ لم يكونوا يُصدرون القرارات من تلقاء أنفسهم، وإنما ينقلون ما يقرره الشيخ، ويبلغون ما يصدر عنه، وهو ما يُصطلح عليه في الفقه بـ”النيابة في الإعلام لا النيابة في الأحكام”. وقد بيّن الإمام القشيري في رسالته هذا المعنى بقوله: “من أُذن له في التبليغ، فليبلغ، ولا يتصرّف في ما ليس له فيه إذن، فإن الفارق بين المأذون والولي كالفارق بين حامل الرسالة وصاحب الرسالة .”
وقد جاء في قواعد التصوف للإمام أحمد زروق، وهو من كبار فقهاء الطريق الصوفي وأدقّهم نظراً في مسائل السلوك والولاية: “إذا غاب الشيخ أو احتجب، كانت الوصية حجة، فإن خفيت، فالعرف، ولا يحق لأحد أن يسوس القوم إلا من أُذن له، إذ السر لا يُحمل بغير إذن، ولا تُدار القلوب باجتهاد العامة.”
وفي فقه السلوك عند أرباب العهد، لا يُفهم تفعيل الوصية زمن احتجاب الشيخ كتنازع على المقام، بل كضرورة تربوية وتدبيرية تمليها مقتضيات السير، حين يتعذر التسيير اليومي وتتعطل سبل التوجيه المباشر. فقد قال الإمام عبد الوهاب الشعراني: “إذا فُقد الشيخ، رجع إلى وصيته، فإن خفيت، فالعرف بين العدول.” وهذا يعني أن الوصية ليست بديلًا عن الشيخ، بل صمام أمان لاستمرار السند، وضمان انتظام الفيض إلى أن يعود البث من مركزه الأصيل. وأكّد سيدي العربي الدرقاوي المعنى نفسه بقوله: “من خالف ما أجازه الشيخ في حياته، فقد سدّ على نفسه باب الفتح.”، مشيرًا إلى أن تجاوز الوصية خروج عن نسق الطريق واعتراض على سرها. فالموصى له لا يُستحدث مقامًا، بل يحفظ عهدًا، ويُناط به ضمان الصيرورة الروحية حين يحتجب من كان قطبها، لا طلبًا للتموقع، بل امتثالًا لحكم الضرورة، وصونًا لوحدة السند.
أما من الناحية القانونية، فالوصية الموثقة تُعدّ سندًا تمثيليًا مكتمل الأركان، تمنح لصاحبها أهلية التسيير في حال تعذر المؤسِّس عن مزاولة مهامه، وهو مايتوافق عليه كذلك الفقه المعتمد في المؤسسات ذات الطابع المعنوي الخاص، كالجماعات الروحية والزوايا.
وقد رصدت في الآونة الأخيرة محاولات غير معلنة لبعض المجموعات ذات الأهداف المعروفة و الامتدادات الخارجية لإعادة تشكيل الزاوية القادرية البودشيشية في صورة كيان سياسي أو هيئة جماعية خاضعة للتأثيرات التنظيمية والتدافعات الداخلية، في انزياح خطير عن طبيعتها الروحية ومرجعيتها التربوية. هذه النزعة تُعد تهديدًا مباشرًا لوحدة الزاوية واستقرارها، وتمهيدًا لتفتيت صفها الداخلي من خلال خلق “هيئات تقريرية هجينة” تفتح الباب أمام تنازع الشرعيات واستيراد منطق التدبير الجماعي إلى فضاء يُبنى على الإذن لا على التوافق. وما يفاقم هذا القلق أن لهذا المسار سابقة خطيرة في النموذج الذي مثّله عبد السلام ياسين، حين تمرّد على سلطة الشيخ الحاج العباس، محاولا تقويض المسار الصوفي إلى مشروع سياسي موازٍ.
ولا بد من التذكير في الأخير أن الخدمة في الزاوية مقام من الفناء لا يُحتمل فيه التطلع ولا التنطع، ولا يُؤتمن عليه من طلب بها وجاهة أو نفوذ، لأنها أمانة تُعطى لا تُنتزع، ويُؤذن بها لا تُطلب. وكل من دخلها وفي قلبه شهوة التموقع أو نزعة السيطرة، فقد خالف معناها وانقلب على سرّها، متسللًا إلى مقام لم يُفتح له، وناصبًا نفسه في موقع لم يُؤذن له فيه. هؤلاء، وإن تحدثوا بلسان الخدمة، فهم في جوهرهم تجار تأثير، يستثمرون في براءة الطريق ويُقحمون منطق الرياسة في حضرة لا تقبل إلا المتجردين.